مع أن الإعلام الأجنبي، وبالذات الأوروبي والأميركي، يدعي الالتزام بالموضوعية دائماً، فإن عين المراقب لا يمكن أن تخطئ أن هذه الموضوعية أحياناً ما تكون مدخلاً شديد الدهاء للترويج لمواقف تتسق ومصالح الجهة التي يتبعها هذا الإعلام، وعلى سبيل المثال فإن إحدى الفضائيات الأوروبية الشهيرة الناطقة بالعربية دأبت منذ بداية الحلقة الراهنة من الصراع في ليبيا، على تبني مواقف منحازة بوضوح، وإن على نحو غير مباشر وبأكثر الوسائل ذكاءً، للمليشيات المتطرفة الإرهابية المنتشرة في طرابلس ضد الجيش الوطني الليبي. ومع ذلك فإن هذه الفضائية لم تفلح في إخفاء هذا الانحياز. ولدي في هذا الصدد أربعة مؤشرات أسوقها كالآتي:
كان من الواضح أولاً أن وجهة نظر خصوم الجيش الوطني الليبي هي الأكثر تمثيلاً في التغطية الإعلامية لمجريات الصراع، وقد يُقال إنه ربما لم يُسمح لها بتغطية ما يجري من الجانب الآخر، لكن هذه الفضائية عودتنا عندما يُحال بينها وبين مصادرها الإخبارية أن تشير إلى أنها حاولت الاتصال بهذه الجهة أو تلك ورفض ممثلوها أو لم تتلق رداً، وهو ما لم يحدث في حالتنا هذه. كذلك فإن هذه الفضائية لكي تعزز ادعاءها الموضوعية كانت تستضيف أحياناً، وإن بنسبة ضئيلة، مَن يعبر عن وجهة النظر الأخرى بعد أن يكون خصوم الجيش الوطني الليبي قد صالوا وجالوا في التعبير عن وجهة نظرهم.
أما المؤشر الثاني فقد تمثل في التكييف الخاطئ للصراع على لسان خصوم الجيش الوطني الليبي، على أنه صراع بين الدولة المدنية الديمقراطية التي تمثلها «حكومة الوفاق الوطني» وأنصارها، والدولة العسكرية التي يمثلها الجيش الوطني، ويرتبط بهذا القولُ بأن الصراع إنما يدور بين الشرعية ممثلة بحكومة الوفاق وبين العسكر(!). ووجه الدهاء في الأمر أن هذا التكييف يرد على ألسنة الضيوف وبالتالي فإن الفضائية التي تستضيفهم تستطيع التذرع بأنهم لا يعبرون عنها، وهذا صحيح، لكنها تتيح لهم الحيز الزمني الكافي للدفاع عن وجهة نظرهم، عكس ما يحدث مع وجهة النظر الأخرى. والحقيقة أنه لا يوجد ما هو أكثر زيفاً من هذا التكييف، فكيف تكون الدولة المدنية الديمقراطية في حماية مليشيات إرهابية مسلحة، ومن هو خاضع لها باعتراف نائب رئيس المجلس الرئاسي المستقيل مؤخراً، بينما تُعَد محاولة الجيش الوطني إعادة توحيد ليبيا علامةً على مشروع لدولة عسكرية؟! وكأن دول العالم كلها ليست بها جيوش، وكأن الجيوش الوطنية لم تلعب عبر التاريخ دوراً أساسياً في نشأة الدول وتعزيزها! أما اختصاص طرف بعينه بالشرعية فهو لا يقل زيفاً، فكما أن حكومة الوفاق تستند إلى «اتفاق الصخيرات» الذي لا يعد موضع إجماع وطني بالتأكيد، فإن الجيش الوطني يستند إلى مجلس النواب المنتخب من الشعب الليبي والذي لا يعترف بحكومة الوفاق.. فكيف يتفرد طرف دون غيره بالشرعية؟
ويُعتبر المؤشر الثالث أكثر المؤشرات وضوحاً على التحيز لخصوم الجيش الوطني، فدون أي مقدمات أذاعت هذه الفضائية أنها أجرت تحقيقاً صحفياً يثبت تورط عناصر تنتمي للجيش الوطني فيما يُشتبه في أنه جرائم حرب، وعُرِضَت في هذا السياق صور واضحة تثبت هذه المزاعم، ومن خلال التتبع الدقيق يتضح أن هذه الصور تعود لسنوات سابقة وهو ما يعني أن الفضائية قد اختارت هذا التوقيت بدقة للإساءة لأحد طرفي الصراع، ولا أحد بطبيعة الحال يمكن أن يدافع عن الأعمال التي عُرِضَت في التحقيق، غير أن الثابت هو أن الطرف الآخر ارتكب في أوقات سابقة جرائم حرب حقيقية لا لبس فيها، فلماذا الإشارة إلى طرف دون آخر؟ صحيح أن الفضائية استضافت في النهاية عضواً بمجلس النواب الليبي عرض وجهة النظر الأخرى، لكن الأسئلة التي وُجهت له وتعليقات المحاور على إجاباته كانت تشي كلها بالتحيز.
وأخيراً وليس آخراً، تلح هذه الفضائية في تغطيتها لمجريات الصراع على أن دولاً عربية بعينها هي التي تدعم الجيش الوطني الليبي، دون أدنى ذكر لدعم تركيا وقطر للمليشيات الإرهابية في طرابلس، وهو دعم افتضح أمره غير ما مرة باكتشاف السلطات الليبية سفناً تهرب الأسلحة من تركيا لتلك المليشيات في انتهاك واضح لقرار مجلس الأمن الدولي. ومن المعلوم أن السلطات اليونانية صادرت في إحدى المرات سفينة محملة بالأسلحة والذخائر المخبأة ضمن حمولات أخرى. وكذلك دون أي إشارة للتفهم الدولي المتزايد للدور الذي يقوم به الجيش الوطني الليبي في مكافحة الإرهاب، بدليل أن عملية طرابلس هي الوحيدة التي نجت من الاستقطاب الراهن بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث تفهم البلدان هذا الدور، فضلاً عن أن مجلس الأمن لم يصدر بياناً بإدانة هذه العملية.. فهل نطمع في موضوعية إعلامية أكثر؟ إلى أن يحدث هذا يتعين الانتباه لما يحيكه لنا الإعلام المتحيز من شراك؟
*نقلا عن صحيفة الاتحاد